الخوري طوني الخوري – النشرة
من دون مقدّمات، ولا حشوات، ولا دبلوماسيّة، ولا تملّق، ولا لغوّ، وبالمباشر، أكتب إلى الأساقفة الذين يُنجبون أساقفة. أقول لأصحاب السيادة: “إسمعوا سَمعاً وأبصِروا إبصارًا”(أش6: 9).
إن كنتم تريدون فعلاً أساقفة أساقفة، إذهبوا وابحثوا عنهم في مكان آخر غير المكان المُعتاد الذي تختارون منه. وسّعوا أنظاركم وانتقوا كهنةً يخدمون، بحبٍّ وتفانٍ، القُرى والأحياء البعيدة عن المواقع المخمليّة، والأزقّة الغارقة في الشّقاء. اختاروا للكنيسة أساقفةً من الكهنة الذين “لوّثوا” أيديهم بالفقراء، وجبل عرقهم تراب أرض رعاياهم، واتّسخت نِعالهم بوحول الطريق. اختاروهم من الذين لا يخافون ولا يَرهبون ولا يسجدون إلاّ لله، ولا يمزجون الحقّ بالباطل، ومن الذين يقفون مواقف شُجاعة في وجه الظلم والظّالمين، ونَعمُهُم نَعَم وولاؤُهم لا! اختاروهم من الذين يبسطون أيديهم نحو السماء، ويعفّرون الأرض بجباههم صلاة وتُقىً وزُهداً. اختاروهم من الذين لا يلفتون أنظاركم، بل أنظار الله والرعيّة. اختاروهم من الذين يُغضبونكم بالحقّ الخارج من أفواههم، ويرضون الله! من هؤلاء اختاروا للكنيسة أساقفةً رُعاة.
لا تختاروا أساقفة من “الطّبقة الكهنوتيّة” و”النّخبة الّدينيّة” و”الطّبقة الإداريّة البيروقراطيّة”، و”المحفل”، ولا من أصحاب العراضات الفيسبوكيّة والإعلاميّة من السيلفيين (selfies) المتشاوفين المخمورين زهواً بحالهم، المُتخمين سفسطة، والمنتفخين كفقاعة الصابون! لقد أظهر الواقع أن اختيار أساقفة من الطبقيِّين والنُخبويين والإداريين والبيروقراطيين، لَم يكن موفّقاً على الدّوام، هذا إن لَم يكن هزيلاً، وليس على قدر ما توقّعته الكنيسة، وأعتقد أننا لسنا بحاجة إلى مِجهر لتبيُّن ذلك! وكذلك الأمر بالنسبة إلى اختيارهم من”المحفل” المُقفل الذي يقتصر على المقرّبين من الأسقف، من أصدقائه المحبوبين لديه، ومن معارفه ودائرته الخاصّة به؛ فيدعم وصولهم إلى السُدّة الأسقفيّة بالإتفاق السرّي مع أقرانه. ويتكرّر الأمر مع مَن يصل إلى هذا الموقع: صديق يأتي بصديقه، وصديقه يأتِ بصديقه، وهكذا دواليك!.
لا تختاروا للكنيسة أساقفة يُملي عليكم المقتدرون أسماءهم! ولا من “الوصوليّين الإجتماعيّين” الذين يتضوّرون جوعاً إلى المراكز العُليا ويحومون حولها كالذّباب، وحول مواقع القرار كالبعوض! ولا من الذين يُداهنون ويتملّقون! لا تختاورا للكنيسة أساقفة “سيمونيّين”، يُغدقوق الأموال والهدايا، بالمباشر أو بالرشوة الناعمة التي قد تمتدّ لسنوات طويلة، على مُنتخبيهم، أو على مَن هم مِن حولهم من المؤثّرين النافذين ليَصِلوا إلى غايتهم! ولا تنتخبوا أساقفة من التابعين والمُستزلمين؛ فمَن يستزلم من أجل الوصول، يستزلم عند الوصول!.
ولا تنتخبوا أساقفة “مغرورين” مُعتدّين بأنفسهم يتصرّفون كالأمراء، ويعيشون سَعَة ورَخاء الأمراء، ولا تُفتح أبواب أُسقفيّاتهم إلاّ للأغنياء والنافذين، ولا يجلسون إلاّ على مائدة المُقتدرين! لا تنتخبوا أساقفةً كيديّين يُهدِّدون ويتوعَّدون، ولا يوازنون بين العدل والمحبّة. ولا من الذين يُفضّلون مَن يكيلون لهم ثناءً ومديحاً، على مَن يعتبرونهم “غير مَرحين وصريحين”. لقد تعبت الكنيسة من أمثال هؤلاء! نعم، تَعبت الكنيسة من الأساقفة الأمراء المخمليّين المَخدومين، وآن الأوان للأساقفة الأنبياء الخُدّام! تعبت الكنيسة من الأساقفة المتسلّطين، وآن الأوان للأساقفة الآباء الذي يُقطِّرون رحمة وشفقةً ووداعة وأُبوّة وأُخوّة. تَعبت الكنيسة من الأساقفة المكتنزين من كنوز الدنيا، ومن الذين يُكدّسون الأموال في المصارف؛ نعم، الأموال التي ينصحون الرعيّة بعدم السّعي وراءها كونها إله يُعبد، وآن الأوان للأساقفة الفقراء المتجرّدين الذين يكفيهم القوت والكسوة(1طيم6: 8)! تعبت الكنيسة من الأساقفة المُستميتين إلى المناصب، الجائعين إلى مجد العالم والناس، وآن الأوان للمتواضعين الصّغار الذي لا حول ولا قوّة لهم إلا بالله. تعبت من الوصوليّين الفاجرين، وآن الآوان “للمتواضعين الودعاء”! وتعبت الكنيسة بالأخصّ من المتولدنين الذين لَم يُصدِّقوا بعد أنهم أصبحوا أساقفة، وأنّ عليهم أن يتخاصلوا بخِصال المهابة والجَلَال!.
فإلى الأساقفة الذين تقوم عليهم مسؤولية اختيار أساقفة جُدُد: إن كنتم تُريدون فعلا كنيسة على حسب قلب الربّ، عليكم أن تختاروا من الكهنة مَن تتوفر فيهم شروط الرّعاية حتى ولو لم يكونوا ملافنة، ولا إداريين ولا نُخبويين ولا من النّادي؛ فالمسيح لَم يأتِ بتلاميذه من الصرّوح العلمية ولم يختارهم من النُّخبويين، بل من صيادي السمك (متى4: 19) و(لو5: 8-10). ولا الله اختار داود من قصور الملوك، بل مِنَ المَربض من وراء الغنم أخذه وأقامه ملكاً على شعبه(2صم7: 8) و(1أخ17: 7). والأسقف كذلك، مأخوذٌ من القطيع ليرعى القطيع باسم يسوع، لا ليتسلّط عليه.
أفسِحوا في المجال للرّوح القُدس بأن يختار من خلالكم كهنةً جديرين بهذا الشّرف الإلهي، وعلى أهبّة تامّة ليموتوا في سبيل الرعيّة. أساقفة يَرعون الرعيّة لا أنفسهم! زاهدون بالدنيا، وبأمجادها، وبزُعمائها، وبمالها؛ فمَن يأتي به الزعيم يسجد للزّعيم، ومَن يأتي به المال يَسجُد للمال، ومَن يأتي به الرّوح يسجد للرّوح. والأمر بهذه البساطة!.
الرّوح القدس يتّكل عليكم فلا تُحمّلوه، وتُحَمّلوا الرعية وِزر ما تقترفونه من خيارات خاطئة تقبلون بها من باب التزلّف لتتلاءم مع طموحاتكم المُستقبليّة! احذروا أن تُجرّبوا الله، فتأتوا بالمعوجّ وتُلزموا الرّوح بأن يُقوِّم ما كسبَته أياديكم، لأنّه لن يفعل… لن يفعل… لن يفعل! فمَن يَصل بالمعوّج والفاسد إلى سُدّة الرّعاية، عليه ألا يسأل بعد ذلك، من أين أتى الخراب ولِمَ آل الحال إلى ما آل إليه! فالخراب وسوء الحال يأتيان من الخيارات الفاسدة، والويل لرّعية يُرأس عليها فاسد، ويترأسها فاسد!.
أين تجدون هؤلاء الأساقفة؟ وسّعوا أنظاركم خارج حدود أُسقفيّاتكم، فتجدونهم متغلغلين في شرايين الكنيسة التي ترعون، كالخمير في العجين، من الكهنة والرهبان الذين يبحثون عن الكمال ويسعون إليه بكلّ جوارحهم، ويريدون أن يخدموا إخوتهم بصدق وأمانة؛ فإن فعلتُم، وجدتُم.