تُجمع المصادر الكاثوليكيّة على أنّ مار جرجس كان جنديّا رومانيّا، أيّام الأمبراطور ديوكلتيانوس الجاحد (284-286 أو 305 في الغرب). ولد في مدينة اللّد في فلسطين من عائلة نبيلة، عريقة التراث في خدمة الله وشعبه، حوالي السنة 254. ويقول آخرون بأنّه من مواليد الكبادوك (حاليًا شرق وسط تركيّا)، لكنّ من المرّجح أنّه استُشهد في مدينة اللُد حوالي 285 للميلاد. وممَّا لا شكّ فيه أنَّ هناك العديد من العناصر الأسطوريّة التي حِيكَت حول قصّة إستشهاد مار جرجس، وهي مبنيّة في أغلب الأحيان على تقوى شعبيّة، تبغي تعليم الإيمان ولو بأسلوب رؤويّ، أسطوريّ (Knights, K. 2009). اسم جورج في اليونانيّة واللاتنيّة يعني البستانجي. ولذلك يعرفه العرب إسلامًا ودروزا ويُكرّمونه باسم “الخضر”.
شَبّ جورج، فسلك طريق أبيه، واعتنق الجنديّة. وقد قبله الأمبراطور ديوكلتيانوس جنديّا في خدمته في مدينة نيكوماديا (تركيّا حاليًا) وهو في العشرين من العمر. وسرعان ما ترّقى جورج في الجيش ليصبح في الحرس الأمبراطوريّ. وفي السنة 302، أمر الأمبراطور الرومانيّ ديوكلتيانوس بتوقيف كلّ عسكريّ مسيحيّ وإلزامه بتقدمة الذبائح لأصنام الآلهة الوثنيّة. عصى جورج هذا الأمر بجرأة وواجه الأمبراطور الحاكم. ممَّا أثار حنق الأمبراطور، الذي لم يشأ أن يخسر خيرة رجاله، بخاصّة وأنّ جورج كان ابن جارونت (Gerontius)، أحد أفضل ضباطه. لكّن جورج لم يستحِ بالمسيح، بل أشهر إيمانه جهرًا، متحدّيًا قرار الأمبراطور أمام رفاقه الجنود والحرس الأمبراطوريّ، معترفا بأنّه لا يعبد إلاّ يسوع المسيح الإله الواحد الحقّ. وعبثًا حاول الأمبراطور استمالة قلب جورج، مغريًا إيّاه بالعروض الكريمة، من أرض وخدم وإكرام … مقابل أن يقدّم جورج ذبيحة للآلهة الوثنيّة.
واذ لمس الإمبراطور عدم جدوى جهوده، أمر بقتل جورج. فتحضّر الشّهيد الكبير لملاقاة سيّده، ووزّع ماله على الفقراء. تحَمّل الشّهيد جلسات تعذيبٍ مريرة ومذلّة، منها تثبيته على سيوف غرزت في دولاب كبير. فكانت السيوف تقطّع جسده في كلّ دورة، ثمّ يشفيه الرّب الإله ثلاث مرّات. إلى أنّ أمر الأمبراطور بقطع رأس شيهدنا، وكان ذلك في 23 نيسان، سنة 303.
وأمام صبره المسيحيّ وإيمانه البطوليّ، آمنت الأمبراطورة ألكسندرا، وأثناثيوس الكاهن الوثنيّ، واعتنقوا الميسيحيّة، ونالوا إكليل الشّهادة للحال. وكان استشهاد مار جرجس حسب أكثر المؤرخين في مدينة اللّد في فلسطين. بينما يقول آخرون، أن استشهاده تمّ في مدينة نيكوميديا، ثم نَقلَ المسيحيّون جثمانه إلى اللّد، ودفنوه وكرّموه كونه من أعظم الشّهداء (Wikipedia/saint Georges).
ونعرف من مصدر آخر (Catholic Encyclopedia) أنّ مار جرجس قد قام ثلاث مرّات، حيث قطّعَ جسده إلى أجزاء صغيرة، ودفِنَ حيًّا في التراب، وحُرِق بالنّار. لكنّه كان، في كلّ مرّة كان ينجو من الموت بطريقة عجائبيّة، ليشهد على عظمة قدرة الله ومحبّته. كما وينسب العديد من العجائب إلى مار جرجس، مثل عودة أناسٍ من الموت لكي يعتمدوا فيخلصوا، وإرتداد العديد من النّاس أفرادًا وجماعات، مثل الأمبراطورة “الكسندرا”، وتدمير جحافل من الأصنام لمجرّد حضوره، وأيضًا سيلان حليب بدل الدمّ من عنقه المقطوع يوم استشهاده.
شهرة مار جرجس
ويخبرُ الحجاج إلى مدينة اللُّد، أو “ديوس-بوليس” الفلسطنيّة، من القرن السّادس ولغاية الثامن للمسيح، أمثال ثودوسوس، أنطونيوس، أركولفوس، عن إكرام كنيسة اللّد لمار جرجس شهيدها، وعن إكرام المؤمنين لرُفاته الموجودة فيها، وعن العجائب الكثيرة المنسوبة لشفاعة هذا القدّيس الكبير (Geyer, “Itinera Hierosol.”, 139, 176, 288). وتأتي البراهين التاريخيّة الأولى على حقيقة مار جرجس من خرائب الكنائس المبنيّة إكرامًا لهذا القدِّيس في لبنان، سوريا، العراق، مصر، وتسالونيكي والتي تعود بأغلبها للقرن الرّابع للميلاد. كذلك يشهد البابا جلاسويس في كتابه (De Libri recipiendis)، سنة 495، على وجود القصص المنحولة حول مار جرجس، كما ويؤكّد على “تكريم مار جرجس بين مصاف الأبرار والصدِّيقين، المعروفة أسمائهم فقط من قبل الله”.
أمّا في شأن تصوير القدّيس جرجس بصورة فارس يقتل التنين، فهو أسلوب رؤويّ مسيحيّ قديم، يبغي تعليم النّاس أهميّة شفاعة الشّهداء في الدّفاع عن الكنيسة. فدمّ الشّهداء، كما المسيح الشّهيد الأوّل، هو بذارُ القدِّيسين. ويشرح (Knights, K. 2009) بأنّ تصوير مار جرجس يذبح التنين، يعود إلى (Historia Lombardic of James deVoragines)، والأرجح أنّ التنين هنا يُمّثل الإمبراطور الرومانيّ ديوكلتيانوس الجاحد (284-305)، الذي كان أيضا يُعرف بـ”داديانوس” أو التنين (Diocletian→Dadianus→Drakon). وتقول الرِّواية، وهدفها تعليميّ لا تأريخيّ، وأسلوبها رمزيّ رؤيوي، بأنّ تنينًا سيطر على النّاس واستعبدهم. وفرض عليهم تقديم بناتهم ذبائح بشكلٍ دوريّ. يُمثّل التنين هنا جهل الوثنيّة، وعبوديّة أهلها للشّيطان. ومِن أبشع مظاهر هذه العبوديّة هي تقديم الذبائح البشريّة لإرضاء الآلهة. أمّا في المسيحيّة، ديانة مار جرجس، فقد قدّم الله ابنه الوحيد كفارةً عن جهالات الشّعوب كافّة. وقد أعلن مار جرجس بشهادته للإله الحقّ، زوال عبوديّة الآلهة الوثنيّة، وتحرير بنت الملك، أي شعب الله، من موت الخطيئة بالمسيح يسوع الفادي.
إكرام مار جرجس
منذ القديم كرّمت الكنيسة في الشّرق والغرب مار جرجس كونه أعظم الشّهداء. وعلى إسمه كرّست الشّعوب جيوشهم، ومدنهم، وبلادهم. وقدّ كرّم الشّرق والغرب مار جرجس في 23 نيسان.
كانت أولى الكنائس التي شيّدت على إسم القدّيس الشّهيد جرجس، بفضل الملك قسطنطين (306-337)، في مدينة اللّد، فلسطين. وقد جاءت روعةً في الفنّ المعماري بحسب المؤّرخ أوزابيوس من القيصريّة (Eusebius of Caesarea). وهذا دليلٌ قاطع على حقيقة شخصيّة مار جريس، إكرام الشّرق له منذ القديم. ووجود هذه البازليك مؤكّد تاريخيًّا، يوم دخل الإسلام اللّد في أوائل القرن السابع. وقد دمّر المسلمون هذه الكنيسة سنة 1010، وأيضًا سنة 1191 على يد جيوش صلاح الدين، وأعيد بناؤها عدّة مرات. والكنيسة الحاليّة تعود لسنة 1872.
في القرن الرّابع إنتشر إكرام القدّيس الشّهيد جرجس بسرعة، وانتقل من فلسطين شمالاً إلى لبنان، ومنه إلى كافّة أرجاء الأمبراطوريّة الرومانيّة. وكم كانت الكنيسة المضطهدة في تلك الأيّام بحاجة إلى مثال وشفاعة مثل هذا القدّيس الكبير. وفي السنة 494 كرّس البابا جلاسيوس الأوّل مار جرجس قديّسا في الكنيسة الغربيّة.
ومار جرجس هو شفيع إنكلترا، وجيشها من القديم. يذكره القدّيس “بيد Bede” شفيع كنيسة إنكلترا الأوّل، كونه شهيدًا. وقد إنتشر إكرام مار جرجس في أوروبا، وبخاصّة في إنكلترا مع الصَّليبيِّين، اللذين أعجبوا بمثله، واتّكلوا على شفاعته المقبولة لدى الله، ونقلوا إكرامه معهم إلى مواطنهم في أوروبا. وقد أعتمِدَ صليب مار جرجس شعار إنكلترا ومدينة لندن (العاصمة) سنة 1190. وهذا الصَّليب هو أحمر اللّون، طويل الذراعين، يُرسم على خلفيّة بيضاء. وقد اعتبر الإنكليز مثلا عيد مار جرجس بأهميّة عيد الميلاد منذ سنة 1222 في مجمع Oxford (Knights, K. 2009).
حسب التقليد المسيحيّ العريق لمدينة بيروت، والتي يعود تأسيس كنيسة مسيحيّة فيها لأيّام الرُسُل، فإنّ القدِّيس جرجس الشَّهيد، هو شفيع المدينة. وتقول الأسطورة، مفسّرة وجود صخرة الرَّوشة في رأس بيروت، بأنّ الصَّخرة الكبيرة هي تجسيد لمار جرجس راكبًا حصانه، والصّغيرة هي التنين، أي الشرّ المحدق بالكنيسة. وقد غلب مار جرجس جهل الوثنيّة وشرّها بواسطة إيمانه ونعمة الرّوح القدس الذي نطق فيه مدافعًا عن صحّة الإيمان المسيحيّ.
عيد مار جرجس
في سنة 1222 كرّس مجمع أوكسفرد في إنكلترا عيد مار جرجس عيدًا مقدّسًا وبطالة في كلّ أرجاء المستعمرات الإنكليزيّة. وفي الروزنامة الكاثوليكيّة اللاتنيّة يقع أيضًا عيد مار جرجس الشّهيد في 23 نيسان. وقد كان عيدًا مهمّا حسب الرزنامة التريدنتيّة (semidouble)، ثمّ صار عيدًا بيسطًا حسب الإصلاح الليتورجيّ للبابا بيوس السابع سنة 1955. وبسّط إلى مقام “تذكار” سنة 1960 حسب الاصلاح الليتورجيّ أيّام البابا يوحنّا الثالث والعشرين. ثمّ أيضًا إلى مقام “تذكار في مقامه-اختياريّ” أيّام البابا بولس السادس، سنة 1969. وممّا لا شكّ فيه أنّ أهميّة عيد مار جرجس الشّهيد تتفاوت بين بلدٍ وآخر، حسب التقاليد المحليّة.
وتكرّم الكنيسة الشرقيّة الأورثودكسيّة القدّيس جورج بمحبّة وافرة، فتدعوه “الشّهيد العظيم”. وتعيّد له الكنائس الشرقيّة في الـ23 من نيسان (روزنامة جوليان، الموافقة للسادس من نوّار حسب التقويم الغريغوري). كما وتحتفل الكنيسة الأروثوذكسيّة الروسيّة بعيدين رسميّين للقديس جورج. الأوّل في الثالث من تشرين الثاني إحتفالاً بتذكار تكريس كاتدرائيّة اللُّد أيّام قسطنطين الكبير (305-337). والثاني يوم 26 تشرين الثاني، وهو ذكرى تدشين كنيسة على اسم مار جرجس في كياف (Kiev)، روسيا، سنة 1054.
وفي مصر يُدعى مار جرجس في الكنيسة القبطيّة بـ”أمير الشّهداء”، ويُحتفل بعيد استشهاده في الـ23 من شهر بارمحات من الرزنامة القبطيّة، وهو يقابل أوّل نوّار في روزنامتنا. كما ويحتفل الأقباط بعيدٍ ثانٍ لمار جرجس في العاشر من حزيران، وهو ذكر تكريس أوّل كنيسة على إسمه (Wikipedia/saint Georges).
الأب زياد أنطون ر.م.م.