روي زيدان – imanouna
الموسيقى لغةٌ عالميّةٌ تتخطّى كُلَّ الحواجزِ، لغةٌ تُخاطبُ الإنسانَ وتؤثّرُ فيه، لغةٌ تَطبعُهُ وتُرافقُهُ في جميع مُناسباتِ حياتِهِ. قالَ العالِمُ الكبيرُ في الفيزياءِ “أينشتاين”: “أرى حياتي من خلال الموسيقى”. فالموسيقى تُعتَبَرُ من مكوّناتِ الهويّةِ الإنسانيّةِ وجزءًا لا يتجزَّأُ من حياةِ الإنسانِ الفرديّةِ والجماعيّة. فما هيَ أهمّيّتُها ومكانَتُها على هذين الصّعيدَين؟
تعود أهمّية الموسيقى في حياة الإنسان كفردٍ إلى ما قبل الولادة. إذ يُجمِعُ العلماء ليس فقط على حقيقة تفاعُلِ الجنين معها، بل أيضًا على أنّها تؤثّرُ إيجابًا على نموّه في أحشاءِ أمّهِ. كما وأشارتْ دراسةٌ حديثةٌ أنّ الأطفالَ الّذين اسْتَمعوا إلى موسيقى كلاسيكيّة خلالَ أسابيعَ الحَمْلِ الأخيرة، أَظهروا نمُوًّا أفضلَ على مستوى القدرةِ الحركيّةِ والتطوّرِ النّطقيِّ والفكريّ.
كذلك، بَيَّنَتْ أبحاثٌ أُخرى أنّ الأولادَ الّذينَ تلقَّوا دروسًا موسيقيّةً منذ الثّالثةِ أو الرّابعةِ من عُمرِهِم يتفوَّقون في الدّراسة: في إبداع مخيّلتهم، وقوّة ذاكرتهم، وذكائهم المكانيّ والعاطفيّ، ومهارتهم اللّغويّة والحسابيّة… عندما سُؤِلَ “أينشتاين” الذي تلقّى دروسًا في الكَمانِ والـ”بيانو” منذ حداثة سنّه، كيف توصّل إلى نظريّة النّسبيّة الّتي افتتحت حقبةً جديدةً في عالَمِ الفيزياء، كان جوابُهُ مفاجئًا: “جاء اكتشافي نتيجةً لِوَحيٍ موسيقيّ”. إذًا، إنّ للموسيقى دورًا أساسيًّا في نموّ الإنسان وازدهارِ مهاراتِهِ.
بالإضافة إلى ذلك، للموسيقى أثرٌ مهمٌّ على عاطفةِ الإنسان ونفسيّته. فالأمُّ تناغي طِفلَها ليرتاحَ ويشعُرَ بالاطمئنان. والعاشقُ يلجأُ إلى أغاني الحبّ ليُعَبِّرَ عن شَوقِهِ. والمؤمِنُ يَستمعُ إلى التّرانيم الدينيّة ليَشعُرَ بِقُربِ ربّهِ منه ويُعبِّرَ لَهُ عن حرارةِ إيمانِهِ. والحزينُ يرتاحُ لسماعِ موسيقى شجيّة تُشارِكُهُ حُزنَهُ. والمُغتَرِبُ يشعُرُ بالحنينِ عندما يستَمِعُ لأغاني بلادِه… في كُلِّ حالةٍ يَعيشُها الإنسانُ، للموسيقى مكانٌ مهمٌّ فيها، أكانَ مُستَمعًا أم مُؤدّيًا. هذا ما دَفَعَ إلى تطوّر علم “العلاج بالموسيقى”، بخاصّةٍ بعد الحربَين العالميّتَين: ففي هذه المراحل الصّعبة كان بعضُ الموسيقيّون يُبادرون فَيَقصِدون المستشفيات ليعزفوا للمتضرِّرين. وكان الأطبّاءُ يُلاحظونَ تحسُّنًا ملحوظًا في صحَّةِ مرضاهم النّفسيّة والجسديّة جرّاء استماعهم للموسيقى.
من ناحيةٍ أخرى، للموسيقى فعاليّةٌ كبيرةٌ في بُنيانِ الجَماعات. يؤكِّدُ بعضُ العُلماءِ أنّها تُقوّي اللُحْمَةَ الاجتماعيّة بين الأفراد من خلال ما يُسَمّى “بالعدوى العاطفيّة”. ففي كلّ القبائل والحضارات والشّعوب هناكَ أناشيد وأغاني تقليديّة تُعبِّرُ عن هويّتِها وتُنمّي عند أفرادها حسّ الانتماءِ إليها وبذلك تَتَعزَّزُ وحدتُها. يتجلّى ذلك أيضًا في التَّرانيم الدّينيّة الجماعيّة، في الأديرة والرّعايا والجوقات، حيثُ الأداء المتناغِمُ لا يَدُلُّ فقط على تِقنيَّةٍ عاليَةٍ واحتراف، إنّما أيضًا على وِحدة الجماعة كأشخاصٍ مُتآلفين لا كأفرادٍ مجموعين. كَذلكَ يَلعبُ الدّورَ عَينَهُ النَّشيدُ الوطنيّ، والأناشيد العسكريّة الحربيّة، وكذلكَ أناشيد المنظّمات الكبرى كالمنظّمة الكشفيّة، وغيرها من المؤسّسات التّربويّة والخيريّة والتّجاريّة.
تُطرَحُ هذه المسألةُ، بطريقةٍ رائعة، في مسرحيّة “أيّام فخر الدين” للأخوين رحباني، إذ تَسألُ “عطر الليل” (فيروز) الأميرَ عن مدى أهمّيّة الرّسالة التي أَوْكَلَها بها بأن تنشُرَ اسمَ لُبنانَ عبر الأغنية. فيُجاوِبُها: “أنا بْسَيْفِي بْحَرِّرْ هَالمَناطِقْ وِبْحَقِّقْ لِبْنَانْ، وإنْتِ بِالغنِّيِّة بِتْخلّي لُه إسْمُه يْزَهِّرْ وَيْنْ مَكَانْ […] ومَتَى الكِلّْ صَارُوا يْغَنُّوه، بِصِيرُوا يْحِبُّوه وِيْريدُوهْ، وْبِصِيرْ هُوّي الغِنِّيِّة”. ويُكْمِلُ جوابَهُ قائِلًا بأنَّ السَّيفَ وَلَو انكَسرَ فالأُغنيَةُ (أي لبنان) باقِيَة!
ختامًا، إنّ الموسيقى رُكنٌ أساسيٌّ من أركانِ الهويّة الإنسانيّة. فهي من جهةٍ تَشتركُ في ديناميكيّة تطوّر الإنسان كفردٍ من المهدِ وحتّى اللّحد، ومن جهةٍ أخرى تُساهِمُ في بُنيانِ الجماعات الإنسانيّة من أصغرها إلى أكبرها. هذا ما دفَعَ طبيب الأعصاب البريطانيّ الشّهير “أوليفر ساكس” ليقول: “أعتقد أنّه لا وجود لحضارةٍ حيثُ الموسيقى ليست مهمّة جدًّا ومحوريّة. ولذلك أعتبر أنّنا ننتمي إلى فصيلة موسيقيّة (musical species)”.