iManouna

أنا والآخر

نانسي زغيب – ايماننا imanouna

يقول الفيلسوف ميشال هنري: “بما أنّ المسيح ليس منقسمًا -لكونِهِ الحياة الوحيدة الَّتي فيها قدرة الحياة- فالبشر أيضًا ليسوا منقسمين. ولكنَّهم -على العكس من ذلك-، واحدٌ فيهِ (…)”. ولا يمكن أن يوجد أنا وآخر، إلّا إذا وُجدَ ما يفوقهما ويسبقهما ويجمعهما. فعلاقة الأنا بالإنسان الآخر موجودة في الاثنَين، وتسبق وجودهما. إن كانت علاقتي بالآخر معقولة فذلك يعني أنّنا من الطَّبيعة عينها (consubstantiels) الـمُنبَثِقة من الحياةVie) ) الَّتي أعطتنا حياةً (vie)؛ وما هذه الحياةVie) ) سوى اللّه. من هنا، ما يربطني بالآخر يتخطّى العالم المادّيّ، أي العلاقات السّطحيّة، والمصالح الشّخصيّة، والزّمان والمكان. فاللّه هو وسط علاقتي بالآخر، وهو ما يجمعنا معًا. والسُّؤال الَّذي يُطرَح: إلى أيّ مدًى تُـجَسِّد، إذًا، علاقَتي بالإنسان الآخر، حضورَ الله في حياتي؟ وكيف أكون بدوري صورة الله المتجسّدة في حياة الآخر؟

يستبدل الفيلسوف بوبر هذه الكلمات: “في البدء كانت العلاقة”، بالعبارة البيبليّة: “في البدء كانت الكلمة”. إذ إنَّ علاقتي بالآخر وحضوره في حياتي، ليسا سوى تجسيدٍ لحضور الله. وعلاقتي بالله الّذي يتخطّاني (Transcendant) تتجسّد في علاقتي بالإنسان المتجسّد في جسدٍ حيّ. وهذه العلاقة هي ما يجعلني موجودًا، وما يسمح لي باختبار حبّ الله اللّامتناهي. ويؤكّد الفيلسوف الفرنسيّ جان-لوك ماريون أنَّني أُحِبُّ الآخر وأبني علاقتي معه على مثال حبّ الحبيب الأوّل لي، أي حبِّ الله. فقد أشعلَ جان-لوك ماريّون ثورةً في عالم الفلسفة. فبدلًا من السّؤال الفلسفيّ الكلاسيكيّ والميتافيزيقيّ: “هل أنا موجود؟”، طرَحَ السّؤال الّذي يسبقُهُ ويفوقُهُ أهميّة، وهو الآتي: “هل أنا محبوب؟”. وهكذا، يصبح الآخر جزءًا لا يتجزّأ من حياتي ووجودي. ويصبح اختبار حبّ الآخر وتقديره لي، هما ما يعطيان معنًى لهذا الوجود: “أنا أحبّ، إذًا أنا موجود”. والأنا (ego) لا يُـحتَمَل إلّا إذا كان محبوبًا. على الإنسان، إذًا، أن يتخلّى عن أنانيَّتِهِ، ويطبّق مبدأ لامركزيّة الذّات (décentralisation). عندها لا يعود “الإنسان ذئبًا (يلتهم) الإنسان الآخر”؛ وعندها لا يعود الجحيم هو الآخر، كما أورد جان-بول سارتر؛ بل يصبح الجحيمُ غيابَ الآخر، كما قال جان-لوك ماريّون، بعدما عاش اختبارًا مسيحيًّا عميقًا. وما الجحيم سوى الانغلاق على الذّات وعدم الانفتاح. وبمجرّد أن أنفتح على الآخر، بعطاءٍ ومجّانيّة، فإنّني أسمح لهذا الآخر أنْ يغيّرَني ويعطيَني لذاتي، وأن يُعطيَ معنًى لوجودي.

من ناحيةٍ أخرى، كما أنّ الآخر هو من يعطيني الحياة، كذلك أنا بدوري “آخر” أُعطي الحياة. أنا سيّدٌ في حياة الإنسان الآخر، ولديّ القدرة المطلقة لأحييَهُ أو لأقتلَهُ. عندما أنظر إليه، إمّا أحكم عليه وأقتله بنظرتي وأحكامي وكلامي، من دون رحمة؛ وإمَّا تكون نظرتي إليه نظرةَ محبّةٍ وتعاطف. وبالنّسبة إلى الفيلسوف الفرنسيّ إيمانويل ليفيناس، عندما أنظر إلى وجه الآخر (الوجه بالمعنى الفينومينولوجيّ)، أي عمق أعماقه، فإنِّي أرى الآخر الّذي يكشف لي ضعفه وهشاشَتَهُ، ويقول لي: “لا تقتلني”. عندها أدرك مسؤوليّتي الأخلاقيّة تجاهه، ودوري الأساسيّ في حياتِهِ. في هذه اللّحظة الّتي أنظُرُ فيها إلى وجهِ الآخر، يمكنني أنْ أرى الله الـمُتجسِّد فيه، وأنْ أُدرِكَ أنَّ كلَّ ما أفعله لأحدِ إخوتي، فإنَّني إلى الله فاعِلٌ إيّاه.

صفوة الكلامِ، ما دامَتْ علاقاتنا الاجتماعية مبنيّة على المنافسة، وعلى الخوف من الآخر والحذر منه، ويسودها مبدأ المعاملة بالمثل (réciprocité)، سيبقى الآخر جحيمًا بالنّسبة إليَّ، وسأبقى وحيدًا ومهمّشًا في عالمي. ولكنَّني حين آخُذُ المبادرة وأنطلق نحو الآخر بمجّانيّة، وأزورُهُ في عالَمِه، لن أعودَ إلى عالمي كما أنا، بل سأعودُ مع كلِّ الغنى الذّي حمّلني إيّاه الآخر خلال زيارتي عمقَ أعماقِه. كذلك، عندما أنفَتِحُ على الآخر، وأستقبِلُهُ في حياتي وأتقاسم وإيَّاه التّفاصيل، سأغتني بِهِ لا محالة. فالفرح والحبُّ يتضاعفان عندما أتقاسمهما والآخر.

نانسي زغيب – ايماننا imanouna

Related posts

مناجاة الى مريم : السَّلامُ عليكِ …

imanouna imanouna

المرافقة الرّوحيّة بقلم الخوري جان بول شربل

imanouna imanouna

عقد العمل وحقوق الأجير

imanouna imanouna