iManouna

القدّيس يوسف القريب من حالة كلٍّ منَّا

الأخت دولّي شعيا، ر.ل.م. – إيماننا

“يستطيع الجميع أن يجد في القدّيس يوسف، الرَّجل الَّذي يمرُّ دون أن يلاحظه أحد، رجل الحضور اليوميّ، المتحفّظ والخفيّ، والشَّفيع، والعضد والمرشد في أوقات الشدَّة”.

بهذه الكلمات الواردة في مقدّمة الرسالة الرسوليَّة “بقلبٍ أبويّ”، يقدّم لنا البابا فرنسيس تأمُّلًا شخصيًّا في شخصيَّة القدّيس يوسف، بمناسبة مرور 150 عامًا على إعلانه شفيعًا للكنيسة الجامعة، هو الرّجل الشُّجاع القريب جدًّا من حالتنا البشريَّة، لا بل حالة كلٍّ منَّا، إذ يتأمَّل البابا في شخصيَّته من عدَّة جوانب: كأبٍ محبوب، وأبٍ في الحنان، وأبٍ في الطَّاعة، وأبٍ في القبول، وأبٍ في الشجاعة الخلَّاقة، وأبٍ عامل، وأبٍ في الظلّ.

لم يُسجّل لنا الإنجيل أيَّ كلمةٍ خرجت من شفتَيه، لأنَّ صمته كان انسحابًا لكلّ كلامٍ بشريّ أمام الله “الكلمة”؛ وبذهول الصَّمت أمام هذا السرّ العظيم، غاص القدّيس يوسف في جذريَّة أبوَّة الله الَّتي هو نائبُها. لم يَقُل لنا الإنجيل شيئًا عن فضائله سوى أنَّه: “كان بارًّا” (متَّى 1: 19)؛ لكنَّها صفةٌ كافية لمن كان أمينًا لرسالته. فلماذا يخرج من بيت النَّاصرة، ليظهر في الخارج وهو الَّذي يلتقي في الدَّاخل بمن هو غاية كلّ شيء؟

أزمةٌ حقيقيّة نواجهها اليوم تسبِّب لنا الشعور بالمعاناة والألم، أو حتَّى بتجربةٍ حياتيَّةٍ مؤلمة: إصابةٌ بالوباء، فقدانٌ لشخصٍ عزيز، فقدانٌ لوظيفة … وكلّ ذلك يجعلنا نصرخ. لكن، في نهاية الأمر، لا نجد أيَّ كلمةٍ تعبّر عمّا نعاني منه فنلوذَ بالصَّمت.

عاش القدّيس يوسف في كنف صمت النَّاصرة. لكنَّ صمته لم يكن امتناعًا عن الكلام، بل صمتٌ مليءٌ بالحضرة الإلهيَّة، وبالاستعداد لقبول إرادة الله. لا يعلِّمنا يوسف فقط قيمة الصَّمت، ولكنَّه يعلِّمنا أيضًا نعمة الحياة اليوميَّة. قال نتنائيل: “أَمِنَ النَّاصرة يُمكن أن يكون شيءٌ صالح؟” (يو 1: 46). مقارنةً مع المدن الهلِّينيَّة الشَّاسعة والشَّهيرة في الغرب، تبدو النَّاصرة في زمن يسوع وكأنَّها حُفرَة. النَّاصرة تعني “الزَّهرة”. لم تُذكَر بتاتًا في العهد القديم، فهي “جديد” العهد الجديد. إنَّها قريةٌ نائيةٌ في الجليل الأسفل، تتميَّز بالبساطة. طبعت حياة النَّاصرة هويَّة يسوع، هذا الاسم الَّذي أصبح اسم عائلته “يسوع النَّاصريّ” (متَّى 2: 23؛ 21: 11؛ رسل 10: 38؛ 26: 9).

هذا لا يعني أنَّ حياة القدّيس يوسف كانت بمنأىً عن كلّ سوء، فقد عاش منشغلًا بحياة القرية حيث رتابة الحياة اليوميَّة والمشاكل السياسيّة، وتسديد الضرائب المفروضة للدولة المحتلَّة، وتخطّي المشاكل والسُّخرية المتكرّرة بشكلٍ يوميّ. لذا، غدا يوسف في النَّاصرة رمزًا لتلك الشخصيَّة الغائصة في قداسة وبساطة الحياة اليوميّة. التجربة الكبيرة الَّتي نعيشها نحن اليوم هي تجربة الحلم أو الهروب من الحياة اليوميَّة، والتوهُّم بأنَّ معنى الحياة سيتطوَّر في ما هو غير عاديّ، في الأمور الكبيرة والمرموقة. لكن مَن قال أنَّ الحياة عبارة عن “ديزني لاند” دائمة، تُحرِّرنا من تعب وثِقل كلّ يوم؟ بعيشه الحياة اليوميَّة البسيطة، أخذ القدّيس يوسف على عاتقه محدوديَّة الانسان الَّذي يُدرك تمامًا أنَّ الأرض ليست السَّماء. فدعوة الله السَّامية الَّتي تفوقه، لم تتحقَّق بما هو أعلى من طبيعته البشريَّة، بل في فرادة حياته اليوميَّة.

قداسة الحياة اليوميَّة توقّينا تجربة تخيُّل خلاصٍ خارج الجسد. فالحياة المسيحيَّة ليست خروجًا من حياة البشر، بل تجذُّر في عالمٍ أكثر إنسانيّة. وما ذلك إلَّا لأنَّ محتوى الوحي الإلهيّ ليس عقيدة، إنَّما هو شخص. فبعكس العقيدة، لا يصل الإنسان إلى ما هو عليه إلَّا تدريجيًّا من خلال نموٍ طبيعيّ. فلو كانت المسيحيَّة مجرَّد رسالةٍ روحيَّةٍ أو أخلاقيَّة، فإنَّ سنوات حياة يسوع الخفيَّة في النَّاصرة لن تكون مُجديَة؛ كان يكفي أن نبدأ بحياة يسوع العلنيَّة. لكن لا! لأنَّ المسيحيَّة ليست إعلانٌ عن حقائق عن الله، ولا كلامٌ عن الله، بل هي أوَّلًا وقبل كلِّ شيء إعلان عن الله بنفسه، في صورةٍ بشريَّة. لذلك، من الضروريّ أن يكون الشَّخص الـمُعلَن بهذه الطَّريقة، أي شخص المسيح، قد تمَّت ولادته كالإنسان، من خلال التَّاريخ، والزَّمن، والنموّ التدريجيّ. لذلك، فالأمر يستغرق وقتًا وسنوات، وهذه السنوات ضروريَّة لتنضج شخصيَّته.

إنَّها مسيرة يوميَّة طويلة! لكن إن طابقت رغباتنا العميقة إرادة الله، عندها لن نقول سوى: “لتكن مشيئتك” (متَّى 6: 10). وهذا ما عَمِله القدّيس يوسف: «لقد عرف يوسف، في كلِّ ظروف حياته، كيف يقول “ليكن”، على غرار مريم يوم البشارة، ويسوع في جتسماني، وعلَّم يوسف يسوع، بصفته ربَّ العائلة، أن يكون خاضعًا لوالديه (راجع لو 2: 51)، وفقًا لمشيئة الآب (خر 20: 12). وتعلَّم يسوع، متتلمذًا على يد يوسف في خفية النَّاصرة، أن يتمِّم مشيئة الآب، وأصبحت هذه المشيئة طعامه اليوميّ (راجع يو 4: 34)» (بقلبٍ أبويّ، فقرة 3).

الأخت دولّي شعيا، ر.ل.م. – إيماننا

Related posts

ما أجمل أقوال القديس شربل … إليكم 50 مقولة

imanouna imanouna

كيف كان وجه يسوع؟ هذا ما نعرفه من معلومة وحيدة في إنجيل متى

imanouna imanouna

سحر الـ “قاديشَت”

imanouna imanouna