ماريّا خليل – إيماننا Imanouna.com
دخلَتْ كلمة “سياسَة”، في الآونة الأخيرة، خانةَ المفاهيم الطّاردة في الوعي الجماعيّ اللّبنانيّ. فباتَتْ مرادفًا للفسادِ والجشعِ وسوء الإدارة، بعدَ أن كانَتْ وسيلةً لحلّ الأزمات وإدارة شؤون الدّولة. وانحصرَتْ كذلك أهدافُها بالبقاء في الحكم وخدمة المصالح الشّخصيّة، بعد أن كانَتْ تهدفُ إلى استمراريّة الحكْم وخدمة المصلحة العامّة.
فما هي السّياسة؟ وإذ قيلَ أنّها فنٌّ، فإلى أيّ نوعٍ من الفنون تنتمي، إلى الرّاقية منها أم الـمُبتَذَلَة؟
اشتُقَّتْ كلمة سياسَة (politique) من الكلمة الّتي استخدمَها اليونانيّون لوصفِ الدَّولة-المدينة (polis). فالسّياسة هي كلّ ما يتّصلُ بإدارة هذه الدّولة. أمّا في اللّغةِ العربيّة، فهي مصدر الفعل “ساسَ”، “يسوسُ”، أي تعهّدَ الشّيء بما يصلحُه.
وعلى مرّ التّاريخ، كتبَ مفكِّرون وفلاسفةٌ كثيرون في السِّياسة، كلٌّ بحسب نظرتِه إلى الأمور والظّروف التّي حاوطَتْهُ في حينِها.
ففي كتاب “الجمهوريّة”، يؤكِّدُ أفلاطون أنّ هدفَ الدّولة والسّياسة، هو تكريس حُكْم الفضيلة، وبناء مجتمعٍ عادل. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي على الحكّام أن يتحلَّوا بالحكمة والشّجاعة والعفّة والعدالة، أي أنْ يكونوا حكّامًا-فلاسفة. من هنا، عارضَ أفلاطون السّفسطائيِّين القائلين بإنكار قوانين الأخلاق كونها من صُنْعِ الضّعفاء لحماية أنفسِهم من جبروت الأقوياء؛ وأكَّدَ أنّ إحرازَ السّلطة يكون بقوّة العقل، لا بشريعة الغاب. ما رفعَ من شأن السّياسة جاعِلًا منها عِلْمًا متَّصِلًا بالأخلاق.
في المقابل، أوردَ ماكيافلي -في مؤلَّفه الـمُعَنْوَن: “الأمير”- أنّ المهمّ في السّياسة هو حيازة الحكْم والمحافظة عليه. وللوصول إلى هذه الغاية، يعتبر ماكيافلي أنَّ كلَّ الوسائل متاحةٌ أمام الأمير الّذي يستطيعُ أن يفعلَ ما يشاء، لأنّ “الغاية تبرّرُ الوسيلة”. فكانَتْ دعوتُه إلى تجاوز كلّ طوباويةٍ حالمةٍ في الدّولة، لأنّ الإنسانّ أنانيٌّ وشرّيرٌ بطبيعته، وإلى إعطاء الكلمة العليا للمصلحة.
وفي واقعنا اليوم، تتأرجحُ السّياسةُ بين مثاليَّةِ أفلاطون وواقعيّةِ ماكيافلي. لا بل إنّها، وللأسف، تميلُ إلى النّاحية الأخيرة. فالمهمّ هو الأمير أو بالأحرى الأمراء الَّذين يتبوَّؤون المناصب بلا حكمةٍ ولا شجاعةٍ ولا عدالة. فيدوسون القانونَ والشّعب وكلَّ ما يعترضُ طريقَ وصولِهم إلى الحكم. كلّ ما يقومون به مسموحٌ. يسعَون إلى أنْ يهابَهم النّاس بدلًا من أنْ يحبّوهم. فهكذا يستعبدُ السَّيدُ عبدَه! وكما تقولُ أسطورةُ زوس اللّوقيّ، إنّ المرءَ إذا ما ذاقَ قطعةً من لحمِ الإنسان، ممتزجةً بلحم القرابين المقدّسة، يصبحُ ذئبًا متعطّشًا للدّماء. كذلك الحاكمُ عندما يجدُ نفسَه مُطاعًا لا يتردّدُ في سفكِ دماء شعبِه.
إذًا، يمكن للسّياسةِ أن تكونَ فنّ “السَّوْسِ” تقودُ الشّعوبَ إلى الفضيلةِ والخيرِ العام؛ وفي الوقت عينه، يمكنُها أن تكونَ فنَّ “دَوْسِ” هذه الشُّعوب وإبقائها خانعةً، خاضعةً لأهواء الحكّام الغوغائيَّة. فالعبرةُ تبقى للفنّان، أخلاقِه ثقافتِه وأهدافِه، وللشّعوبِ طبعًا حيث تسمحُ لهم الأنظمة باختيارِ حكّامِهم.
ماريّا خليل – إيماننا Imanouna.com