دير سيِّدة طاميش بين الصنوبر والسنديان والكرمة والزيتون، على مشارف آثار نهر الكلب العريقة، وحكايات مغارة جعيتا القديمة،
يطلُّ، منذ فجر المسيحيَّة، دير سيِّدة طاميش- بيت الشعَّار، يحكي أسطورة إلهة الخصب “Artémis” في حكاية جديدةٍ، هي حكاية العذراء أمِّ الله. أمَّا حكاية الدير الحاليِّ فتنطق بها لوحةٌ من حجر، فوق شبَّاك الكنيسة، فتخبر أنَّ المطران جبرائيل البلوزاويّ، مطران حلب، أنشأ، سنة 1670، دير سيِّدة طاميش، في عهد البطريرك إسطفان الدويهي، وبعناية الشيخ نوفل الخازن وأولاده، وجعله كرسيًّا له.
وَلَمَّا جاء المؤسِّسان عبد الله قراعلي ويوسف البتن من حلب إلى لبنان سنة 1694، توجَّها، في الصيف، إلى دير سيِّدة طاميش حيث مكثا ثلاثة أشهر، وكان هذا الدير “مزدوجًا” كباقي أديار لبنان، أي يسكنه رهبانٌ وراهبات. وافق قراعلي والبتن على السكن في دير سيِّدة طاميش، شرط أن ينقل المطران البلوزاويّ الراهبات إلى دير آخر.
فلم يَقبل، فغادرا إلى دير سيِّدة قنُّوبين حيث كان في انتظارهما جبرائيل حوَّا، فتسلَّموا دير مرت مورا في إهدن سنة 1695. وفي سنة 1700، خرج الأبوان سليمان حاج المشمشاني وعطاالله كريكر من دير سيِّدة طاميش، برضى رئيسهما ومطرانهمان وتوجَّها إلى برمانا حيث بَنَيا دير مار أشعيا وأسَّسا الرهبانيَّة الأنطونيَّة.
تسلَّمت الرهبانيَّة الدير من المطران جرمانوس فرحات، سنة 1727، في عهد الأب العام ميخائيل اسكندر، وكان الدير بحالةٍ مُرْضيةٍ في ذلك الوقت، فقد شارف على الخراب لسوء التدبير. فاتَّفق المطران فرحات والبطريرك يعقوب عوّاد (1705-1733) والمشايخ الخوازنة على تسليمه للرهبان اللبنانيِّين، لِيَفوا ديونه ويتلاقوا الخراب الذي كان يهدِّده، فحرَّر المطران فرحات ومشايخ آل الخازن ورئيس الدير حججًا بذلك. في تلك الفترة، جدَّد الدير عدَّة مرَّات، وكان مقرًّا للرئاسة العامَّة للرهبانيَّة المارونيَّة من سنة 1770 حتَّى سنة 1913. وشيّدت الكنيسة الحاليَّة، سنة 1807. إحتلَّ الجيش المصريّ الدير، سنة 1840، ونهبه وأحرقه، فالتزمت الرهبانيَّة بعد رحليهم إعماره من جديد، أسوةً بباقي الأديار التي تضرَّرت أثناء تلك الأحداث. وَلِدَير سيِّدة طاميش محبسة على اسم القدِّيس أنطونيوس الكبير أبي الرهبان، في محلَّة “عين قطِّين” غربيِّ للدير.
كان أوَّل من سكنها الحبيس يعقوب أبي مارون الذي أمضى فيها اثنتَين وثلاثين سنة، من 1926 حتَّى 1958. وفي 17 كانون الثاني 1998، دخل إلى هذه المحبسة الأب يوحنَّا الخوند ليحيي من جديد حياة النسك والاستحباس التي تميَّزت بها الرهبانيَّة عبر تاريخها. وللحفاظ على التراث والتقليد الرهبانيّ، قرَّرت الرهبانيَّة، سنة 1855ن شراء مطبعةٍ من أوروبا، مجهَّزةٍ بالحروف العربيَّة والسريانيَّة واللاتنيَّة، وبكلِّ ما يلزمها من مصبِّ أحرفٍ وآلاتٍ لعرم والتجليد والقطع، ووضعتها في دير سيِّدة طاميش. فطبع فيها العديد من الكتب الليتورجيَّة واللاهوتيَّة، نذكر منها كتاب الدرّ المنظوم (1863) للبطريرك بولس مسعد (1854-1890) والشحيمة المارونيَّة.
وتجدر الإشارة إلى أنِّ مكتبة هذا الدير كانت عامرة بالمخطوطات الثمينة. من آثار الدير القديمة: حلَّةٌ من نحاسٍ كبيرة يعود تاريخها إلى سنة 1675، بحسب ما نقش عليها؛ وصورةٌ شرقيَّةٌ جميلةٌ للعذراء مريم، رسمت باليد على الخشب، يعود تاريخها إلى سنة 1692؛ وأخرى تمثِّل الدينونة، اعتنى بها القس نستير مدلج اللبنانيّ سنة 1783؛ وصورةٌ ثالثةٌ للعذراء مريم، يعود تاريخها إلى سنة 1817.
هذا، بالإضافة إلى العديد من الأواني والثياب الكنسيَّة والصور القديمة وغيرها… لقد أسهم دير سيّدة طاميش في بناء عدَّة أديار، وأسّس مدرسةً إبتدائيَّةً وتكميليَّةً سنة 1960 فوق بناء الدير القديم، أمانةً منه للغاية التي من أجلها عمل رهبانه النشيطون منذ تسلُّمهم الدير سنة 1727. قرَّرت الرهبانيَّة تحويل المدرسة إلى معهد إكليريكيٍّ، سنة 1969، ونقلت إليه فئة الطالبيَّة في الرهبانيَّة من جامعة الروح القدس- الكسليك. ثمَّ رمَّمت كنيسة الدير سنة 1972 بمؤازرة المديريَّة العامَّة للآثار، وأعادت بناء قبَّتها، وألبست الأقبية حلَّةً جديدة، واحتفلت في 22 حزيران 1974 باليوبيل المئويِّ الثالث لتأسيس الدير.
أُصيب الدير بكثير من الأضرار خلال الأحداث اللبنانيَّة الأخيرة. ولَمَّا عصفت بلبنان آخر حلقات الحرب سنة 1989، تفاقم الدمار فنقلت الرهبانيَّة فئة الطالبيَّة إلى دير سيِّدة ميفوق. وفي سنة 1993، في عهد الأب العام يوحنّا تابت، تحوَّل دير سيِّدة طاميش إلى ورشة عمل كبيرة حيث رمَّم الدير القديم، وبني جناحٌ كبيرٌ جديدٌ إلى جانب الدير، تمَّ فيه جمع شمل الرهبان الدارسين، في أواخر أيلول سنة 1994. علاوةً على الدور التربويّ، يقوم رهبان الدير بنشاطٍ رعويٍّ ملحوظٍ في الرعايا المجاورة، خصوصاً في كنيسة سيِّدة المغارة وكنيسة أنطش سيّدة النجاة في الكرنتينا، وبتأسيس الجوقات الدينيَّة، وتأمين النشاطات وسائر الخدمات الرعويَّة.
ويقوم الرهبان أيضًا بعملٍ ناشطٍ في استصلاح أرزاق الدير واستثمارها في أعالي صنِّين ونهر الكلب. ومع وجود الرهبان الشباب اللاهوتيِّين فيه، يبدأ دير سيِّدة طاميش، عهدًا جديدًا مليئًا بالآمال الزاخرة. فعساه يجدِّد مجد الأجيال الغابرة، إذ يتسلَّم منها المشعال المنير، لينطلق نحو مستقبلٍ زاهر كبير.
الرهبانية اللبنانية المارونية