الخوري أنطوان الدويهيّ – ايماننا
تحتفل الكنيسة المارونيَّة في اليوم الثاني للميلاد بعيد تهنئة العذراء مريم بولادة ابنها يسوع بالجسد، بعدما وُلد من الآب منذ الأزل. لكنَّنا نقلنا العيد لليوم الثالث، أي ليوم الأحد لتعذُّر المؤمنين على المشاركة البارحة بهذا العيد.
في هذا اليوم تقرأ الكنيسة نشيد مريم العذراء الذي أنشدته عند زيارتها نسيبتها إليصابات. فراحت تشكر الله على هذه النعمة الفريدة التي اختصَّها بها وهي أن تكون أمَّ ربِّها. في تأمُّلنا، نتوقَّف عند ثلاث أفكار:
1. تعظِّم نفسي الربّ: بدأت مريم نشيدها بتعظيم الربّ. وهذا التعظيم لا يزيد من قدر الله شيئًا، بل يعلي شأن قائله. فالله عظيم بنا أو بدوننا. ولكنَّنا عندما نعظِّم الربَّ نشعر بأنَّنا نعيد له بعضًا ممَّا أغدقه علينا. بتعظيمنا له، نؤكِّد أنَّنا لا شيء دونه. وهو الذي صنعنا ويرفعنا كلَّ يوم، إن شئنا، إلى حيث يريدنا أن نكون، إلى جواره، في درب القداسة. نعظِّم الله أي نجعله سيّدًا على حياتنا، نسلِّمه ذواتنا، نُقرُّ بضعفِنا أمامه وأنَّه قوَّتُنا. كلّما يقترب الإنسان من الله يشعر بضعفه وخطيئته، كما الشمعة التي تشعر بأهمّيَّتها عندما تكون وحدها في الظلام، ولكن عندما ينبلج الصبح ويسطع نور الشمس تشعر بأنَّها لم تعد شيئًا أمام الشمس التي تغمر الكون بضوئها. هكذا الإنسان يظنُّ العالم ملكًا له طالما لا يرى سوى نفسه، ولكن بقدر ما يقترب من الله، يشعر بأنَّه لا يساوي شيئًا، وإن ساوى شيئًا فبفضل الله الذي أشركه بعظمته.
2. تبتهجُ روحي بالله مخلِّصي: لا فرح حقيقيًّا خارج الله. وبصورة معاكسة للصورة السابقة، يشعر الإنسان بعيدًا عن الله أنَّه لا شيء، وأنَّه بحاجة إلى حضور الله في حياته لتصبح لحياته معنى. وبقدر ما يقترب الإنسان من الله يدخل الفرح إلى قلبه، هذا الفرح الذي لن ينزعه أحد منه، فهو فرح سماويّ ينبثق من قلب الله إلى قلب الإنسان. اختبرت مريم هذا الفرح لأنَّ ابن الله أضحى معها وفي أحشائها، لأنَّ المسيح هو فرحها، هو تعزيتها، هو سلامها. أيُّ امرأة تحلم بأن تكون أمًّا، تشعر بفرح لا يوصف عندما تعرف أنَّها حامل، فكيف حال مريم هي التي بشَّرها الملاك بأنَّها تكون أمَّ خالقها، أمَّ ربِّها؟
3. نظر إلى تواضع أمته: أقرَّت مريم أنَّها وضيعة. والتواضع لا يعني اعترافًا كاذبًا بالدونيَّة، بل هو اعتراف بقدرة الله في حياتنا. هو اعتراف أنَّه صنع بنا عظائم كما صنع بمريم العذراء إذ جعلها أمًّا وهي بتول، جعلها أمَّ الله وهو خالقها، جعلها سلطانة السماوات والأرض وهي من ضيعة لم يسمع أحد بها من قبل. هي متواضعة لأنَّها عرفت أنَّها تعظَّمت بالله الذي تجسَّد فيها. هي متواضعة لأنَّها عرفت أنَّ الأجيال ستطوِّبها. هي متواضعة لأنَّها عرفت أن تطيع إرادة الله في حياتها فآمنت بأنَّ الله قادر أن يصنع من المستحيل ممكنًا، فاستحقَّت الطوبى: “طوبى لتلك التي آمنت بما قيل لها من قبل الربّ”.
هذه هي مريم العذراء أنقى البتولين والبتولات. عظَّمت الله فتعظَّمت، ابتهجت بالله فخُلِّصت كما خُلِّص العالم باستحقاقات دم ابنها المسفوك على الصليب، المأخوذ منها.
ويسوع على مثالها، لم يعُدَّ مساواته لله غنيمة، بل تواضع، أخلى ذاته متَّخذًا صورة العبد وأطاع حتَّى الموت الموت على الصليب، لذلك رفعه الله وجعل اسمه فوق كلِّ الأسماء لكي تجثو لاسمه كلُّ ركبة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، ويعترف كلُّ لسان أنَّ يسوع هو ربٌّ ومسيح.
وأنت أيُّها الإنسان، علامَ تتباهى؟ أأنت أعظم من أمِّكَ مريم العذراء؟ أأنت أعظم من ربِّك الذي وُلد في مذود حقير؟ مهما حصَّلت من علوم، ومهما سموت في المراتب والمراكز، لن تصل إلى مرتبة أسمى من مريم! ولن تحوز مجدًا أعظم منها، لكن يمكنك أن تحوز على المجد السماويّ الذي حازته مريم بتواضعك وانتصارك على ذاتك، وامِّحائك أمام إلهك الذي وحده القادر أن يرفعك إلى مستوى أعلى، إلى مستوى القداسة.
فيا مريم يا أمَّ الله علِّمينا أن نتواضع على مثالك، لنحوز المجدَ الذي بلغته في السماء. آمين.
الخوري أنطوان الدويهيّ – ايماننا