كوليت الشمالي: ثلاثة أمور لم يتخلَّ رامي عنها في الأكاديميّة، وأنشد لمريم العذراء مخالفًا التعليمات!
قلوب محبّيه تنبض باسمه رافعة أنشودة حبّ لامتناهٍ ووداعة مجبولة بالوفاء… كل زاوية من زوايا المنزل تنبض بدورها باسم نجم حبيب سكن قلوب الآلاف، ورحل في ريعان شبابه في حادث سير تنبّأ به قبل وقوعه…
بينه وبين القديسة تريزيا الطفل يسوع قصّة “حبّ لا يوفى إلا بالحبّ” ووعود بنثر وابل ورود النعم من السماء على أهل الأرض…
8 تموز 2010 عشر سنوات مرّت، ولم تخمد شعلة ذكرى شاب ارتشف من الصدق صفاءً شبيهًا بصفاء روحه، وأنشد الجمال والعذوبة ألحانًا خالدة ونغمات سماويّة… إنه نجم ستار أكاديمي رامي الشمالي الذي غاب جسده، لكنه لم يغادر أفئدة أفراد أسرته وأحبّائه أبدًا.
أليتيا أحبّت أن تتعرّف إلى الأمّ الرائعة التي احتضنت قلبًا لم ينفك ينبض بمحبّة الآخرين، حتى “سيق إلى الذبح كشاة” (تلك الترنيمة التي عشقها إلى أن اختبر ألمها)، كوليت الشمالي أو ماما كوليت التي أدخلتنا إلى أعماق ابنها الحبيب، وأضاءت على العلاقة الغنيّة والمتينة التي ربطته بالله وشفيعته المحبوبة معلّمة الكنيسة القديسة تريزيا الطفل يسوع.
منجذبٌ إلى الله منذ نعومة أظفاره
“كان رامي منجذبًا إلى الروحانيّات منذ نعومة أظفاره؛ تميّز بأنه طفل هادئ وقانع بما لديه، ورافقته هاتان الصفتان طوال حياته… كان يتأمل، وينظر إلى الأعلى، ويصغي إلى الترانيم…
كَبُر بنعمة الربّ يسوع، والتزم في الحركة المريميّة في سهيلة، وشارك في النشاطات الروحيّة، وكان دائم الحضور في الكنيسة، فاكتشف موهبته فيها، وأصبح مرنّمًا”، تخبر ماما كوليت.
“عندما دخل الأكاديميّة، لم يكن رامي قد أنشد أو غنّى خارج الكنيسة بل اقتصرت خبرته الفنيّة المتواضعة على الترنيم فيها. أعطى الأولويّة إلى القداس الإلهي؛ كان يصل من الجامعة، يضع أغراضه في المنزل، أحيانًا لا يتناول الطعام، ويتوجّه إلى دير القديسة تريزيا في سهيلة.
شارك في رسيتالات عدّة، ودُعي إلى بلدات كثيرة من أجل إحياء سهرات روحيّة، فلبّى الدعوات بفرح ولم يرضَ أن يتقاضى المال من الحضور، قائلًا: هل يُعقل أن أتقاضى أجرًا مقابل صلاتي؟
كان يقضي وقته في الكنيسة في معظم الأحيان، ولم أكن أراه في المنزل. لم يتخصّص في الموسيقى، بل اختار اختصاص الصناعات الغذائيّة، وقرّر جعلها خيارًا بديلًا في حال لم ينجح في الفن الذي يحتّم على المرء سلوك طريق قذر، ما رفضه رامي بشدّة”.
بين رامي والقديسة تريزيا… وابلٌ من ورود النعم!
عبرات ماما كوليت رافقت اللقاء الصادق الذي جمعنا بها، فعبرنا معها إلى أعماق ابنها، وحدّثتنا عن العلاقة الرائعة بشفيعته التي كان يحلو له مناداتها “ترّوزا”…
“كان رامي هادئًا، لا يفصح عن مشاعره وأحاسيسه… لم يكن يبارح دير القديسة تريزيا؛ كنت أشعر بأنها رفيقته ومعاصرة له… كم من المرات دعاني للتوجّه إلى الدير بعد منتصف الليل… عند وصولنا إلى ساحته، كان يغرق في تأمل السماء، وكأنه يحاور الله، من دون أن ينبس ببنت شفة”، تقول ماما كوليت.
“كان يخاف عليّ إلى درجة أخفى عنّي أن الحلم المزعج الذي أخبرني به مرّة وسمعته يتحدّث عنه للمرّة الثانية في الأكاديميّة قد راوده على مدى عشر سنوات.
ربما شعر رامي بأنه سيرحل باكرًا. كان حلمه بمثابة رؤيا رافقته وتنبّأت بالحادث الذي حصل معه وأودى بحياته…
في إحدى المرات، شارك رامي في مناقشة موضوع متعلّق بالدينونة في خلال لقاء نظّمته الحركة المريميّة؛ كان المشاركون خائفين ومرتعبين في خلال نقاش هذه المسألة ما عدا رامي الذي أخبرهم بحلمه مبتسمًا، وقال لهم: لماذا أنتم خائفون؟ لِيَعِش الإنسان راضيًا ربّه، فلا داعي للخوف من الدينونة. ومن ثم أفصح لهم عن شعوره بأنه سيرحل باكرًا. عندما طلبوا منه تغيير الحديث، أردف قائلًا: لا مشكلة في الموت المبكر! لقد انتقلت القديسة تريزيا إلى الحياة الثانية باكرًا وهي قديسة! عندما أموت، سأنتقل إلى الأعالي وأسرق ورودًا من القديسة تريزيا وأنثرها عليكم!”
لم تستطع والدة رامي تمالك نفسها، فأجهشت بالبكاء قائلة: “أفرحني ما قاله رامي وأبكاني في الوقت عينه؛ لم يخبرني بما جرى في خلال المناقشة، بل أعلمني رفاقه بها… كان ابني يزور دير القديسة تريزيا دومًا برفقة صديقته؛ لم يهتم بالسهر في الملاهي، بل حلت سهراته في دير شفيعته… أحبّ “ترّوزا” إلى درجة شابهها في رحيلها المبكر في العمر عينه!
وفي خلال حديث آخر تبادله مع رفاقه عن مشاريعهم المستقبلية، قال رامي إنه سيتعرّض لحادث سير يؤدّي إلى موته. كان يستشعر الأحداث قبل وقوعها، ما جعلني أقول: أحبّه الله إلى حدّ أنعم عليه بأن يدافع عن نفسه قبل رحيله”.
وتخبر ماما كوليت عن لحظات الفرح في حياة رامي بعد خروجه من الأكاديميّة: “عندما خرج ابني من ستار أكاديمي، احتفل به أهل سهيلة عند مدخل دير القديسة تريزيا، ونثروا الورود عليه…
لاقاه المحبّون في ساحة القديسة تريزيا بالورود والبقلاوة، وحملوه على الأكتاف، فعلت البسمة وجهه، وأعرب عن سعادته الفائقة الوصف قائلًا: أنا سعيد جدًّا، وأشعر بالفرح يغمر نفسي كما تهلّلت بهجة وسرورًا حين زارت ذخائر القديسة تريزيا لبنان!… من ثم، اختفى رامي في خلال تلقّي التهاني. بحث المهنّئون عنه من دون جدوى…أما أنا، فكنت أعرف مكانه؛ كان راكعًا عند رفات القديسة تريزيا، ورافعًا الشكر إليها على النعم التي أُغدقت عليه!”
رنّم لمريم العذراء في الأكاديميّة!
وتخبر ماما كوليت عن صلابة إيمان رامي ووفائه في نقل البشرى، ترافقها دموعٌ لم تبارح قلبها ووجنتيها: “عندما دخل ابني الأكاديميّة، كان يحمل معه الإنجيل والمسبحة وصورة القديسة تريزيا، ولم يرضَ التخلّي عنها، فلم تمنعه الإدارة من الاحتفاظ بها…
في عيد الأمّ، سُئل رامي: ماذا تقول لأمّك؟ فأجاب: أعتذر عن كل كلمة سيّئة قلتها لها”…
واغرورقت عينا ماما كوليت بالدموع، وتابعت قائلة: سُئل أيضًا: ماذا تقدّم لها؟ فردّ بالقول: أقدّم لها وردة حمراء، ورنّم “أمّي يا أمّي أهديكِ ذاتي!” أنشد الترنيمة مُخالفًا التعليمات…
كان رامي مبشّرًا في قلب الأكاديميّة التي ضمّت مجموعة من المواهب من مختلف الديانات والجنسيّات، وقضى معظم وقته في الاستراحات في إنشاد الترانيم”.
لم يمت رامي بل قام مع المسيح!
إن الإصغاء إلى ماما كوليت يخطفك من اللحظات الآنيّة ويُدخلك في هيكل الحبّ الإلهي الذي سجد فيه ابنها، وتتابع: “في أسبوع الآلام، تردّدت كثيرًا قبل حضوري البرايم في الجمعة العظيمة، لكن رفاق رامي أصرّوا عليّ كي أحضر الحفل.
عندما رآني جالسة في الصفّ الأوّل، بادرني بالسؤال الآتي: من رنّم “لا لن أرى حبًّا”؟ نعم، أحبّ رامي هذه الترنيمة كثيرًا، ورغب في معرفة من رنّمها في غيابه… كان قلبه ينبض بحبّ الكنيسة وما زال ينبض فيها.
عندما تمّ قبوله في ستار أكاديمي، توجّه إلى دير القديسة تريزيا، وخاطب الربّ قائلًا: إذا كانت هذه الخطوة ستبعدني عن دربك، لا تسمح بدخولي الأكاديميّة!
شاركتُ ابني طلبه أيضًا… عندما وقعت الحادثة الأليمة، عاتبتُ الربّ يسوع، قائلة: ألم أطلب منك ألا تسمح له بدخول الأكاديميّة إذا كان سيصيبه أي مكروه؟!
بعد مرور سنوات طويلة، وصلني الجواب من الربّ، فقلت في قرارة نفسي: لو لم يدخل رامي الأكاديميّة، لكان المحبّون اقتصروا على محيطه في الرعيّة، وربما كان سيتعرّض للحادث، سواء أدَخَل الأكاديمية أم لم يدخلها، وبالتالي، سمح الله بمشاركته في ستار أكاديمي كي يعرفه الناس، وينقل البشرى بأمانة إلى الآخرين أينما حلّ.
بعد عشر سنوات على رحيله، لا أقول كلمة “موت” بل أؤمن بأن المسيح قام من الموت وابني قام مع الربّ القائم من بين الأموات. لقد انتقل ابني من جهنّم إلى الجنّة، وما زال ينبض في قلوب الناس، ولن تغيب ذكراه أبدًا! أغدق الله عليّ نعمة محبّة الناس لابني، هذه الهبة السماويّة التي ترافقني بعد غيابه”.
هذا ما علّمني إيّاه رامي…
وإذا بي أطرح السؤال الآتي على والدة رامي: “هل عاتبتِ الربّ وسألتِه: لماذا لم تبعد عنّي هذه الكأس؟!”
تجيب ماما كوليت: “لا أعرف إذا ما عاتبته في السابق، ولكنني الآن أقول له كلمة واحدة: شكرًا يسوع!
أشكرك لأنني ما زلت أحتفظ بصلابتي الداخليّة، ولأنك تقوّي إيماني!
أؤكد أن يسوع يرافقني، وألمس حضوره دومًا في حياتي، وأمّي العذراء دائمة الحضور إلى جانبي، ولها تأثير كبير في مساندتي على حمل الصليب بعد فراق رامي على الرغم من أنني عاتبتها في الأسبوع الأوّل بعد رحيله إلا أنها بعثت إليّ برسائل كثيرة، وتلقّيت إجابات عديدة في أحداث حياتي.
عند تلاوة المسبحة الورديّة، كانت والدة الله عزائي! أتأمل مريم عند أقدام الصليب ترى ماذا يفعلون بابنها، وكنت أسألها: كيف تحمّلتِ والتزمتِ الصمت وهم يعذّبون ابنك؟!…
شاركتها في حمل الصليب… الربّ منحني القوّة… اعتاد المحبّون على مناداتي “ماما”، وعندما يثنون على تربيتي رامي، أجيبهم: لا يعود الفضل لي، بل للربّ! لقد اهتممت بتربية رامي لكنّه علّمني أيضًا الالتزام في الكنيسة، وإعطاء الأولويّة إلى السجود للقربان المقدّس”…
كلمة “بحبّك” قليلة عليك!
وختمت ماما كوليت الحديث عن اختبارها المكلّل بالآلام، موجّهة كلماتها المبلّلة بعبرات لم تهجر مقلتيها، قائلة: “كلمة بحبّك قليلة عليك يا ماما!” أفتقدك كثيرًا وأشتاق إلى احتضانك! أنت تعيش معي دومًا، وأنا على يقين بأن الربّ لن يتركني، وسيرافقني إلى الأبد!”
المصدر: أليتيا