أعود عشرات السنين إلى ذاك اليوم من عام ٢٠٠٠، انتظرت أن تمرّ سيارة متوجهة الى جبيل من اللقلوق حيث المنزل الصيفي للعائلة. كنت في العشرين من العمر، مرّت ساعة تقريباً حتى مرّت سيارة بي كان وقتها رئيس دير مار أنطونيوس حوب الأب جورج طربيه على ما أذكر. سألني عن الوالد، والاقارب، وتحدثنا قليلاً في الروحانيات.
وصلت الى مفرق عنايا حيث حاجز الجيش، سرت مسافة طويلة حتى وصلت الى دير مار مارون عنايا. وقفت وسط آلاف من الجموع، لم أكن اعرف لماذا هذا العدد كله، لم أكن على علم أنه عيد القديس شربل، وأيضاً ذكرى شفائه السيدة نهاد الشامي.
أخذت الأمور ساعة على الاقل حتى وصلت الى المحبسة، الطريق مليء بالبشر، يصلّون، يحاولون الوصول مثلي الى المحبسة، ولكن بسبب ضيق المكان، كان من الصعب اختراق الجمع، ولكن وصلت الى المحبسة بعد جهد كبير.
شعور لا يوصف أن تشارك القديس شربل عيده، أن تشارك السيدة نهاد الشامي فرح شفائها، الأهم، أن تشارك الكنيسة الارضية فرح السماء، فرح شربل الراهب الفلاح الذي اتحد بالله وعشقه حتى القداسة.
بينما أنا في طريقي نحو المحبسة، سمعت صوتاً من بين الجموع، عرفت أنّ الصوت يصرخ بي، لم أر الشخص بين الجموع، لكن الصوت كان عالياً. سرت عدة أمتار، فرأيت رجلاً مقعداً جالساً على حافة الطريق على التراب، ينظر اليّ، يناديني بين الجموع.
سألته، هل كنت تناديني؟ قال: نعم.
لوهلة، افتكرت نفسي في حلم، اقتربت أكثر، نظرت اليه لأتأكد اني لا اشاهد خيال، الشك راودني، ماذا يريد هذا الرجل؟
المهم، قال: “انت لوحدك فيك تساعدني”. لم أفهم ماذا يريد. سألته: هل تريد مال؟ هل تريد أن أحملك الى المحبسة؟
ضحك الرجل، وقال، ما بالكم كلما ناديتكم تنظرون الى حالي ولا تنظرون إلى حالكم!
لم أفهم شيئاً وقتها، تابعت سيري نحو المحبسة، ولكن لم يفارقني وجهه ولا كلماته.
بعد تلك السنين، ما زال ذاك المشهد يراودني، واليوم في زمن الكورونا، عرفت جيداً معنى ذاك الكلام.
طبعاً، لم يكن الرجل القديس شربل، لا، لست اقول هذا ولا يتهمني أحد بذلك، ولكن عدت بالذاكرة اليوم حين كانت الأم تريزا في الفاتيكان تنتظر موعدها مع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، التقت الراهبة القديسة بمشرّد، وتأخرت على موعدها. تفاجأ مساعد البابا أنها تأخرت على موعدها، وعاتبها، لماذا تأخرتي؟ هذا موعد مع قداسة البابا، ممثل يسوع على الأرض. أجابت القديسة: اعرف، وأنا التقيت بيسوع على الطريق فتأخرت.
التقت بما معناه بيسوع المحتاج، يسوع هو كل انسان على صورته ومثاله.
قال يسوع، “كنت جائعاً فأطعمتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضاً فزرتموني”.
ذاك الرجل، يعرف أنه بحاجة الى المساعدة، ولكن هي رسالة لكل واحد منا أن نفهم أن كل مريض، كل جائع، هو صورة يسوع على الأرض، والمهم أن نهب قلبنا كله لكل هؤلاء وألا نكتفي بارسال بضعة من النقود أو الاتصال كـ “رفع عتب”.
اليوم، وفي زمن الكورونا، فنقدم قلوبنا للاقرباء والابعدين، لكل مريض، لكل محتاج، أن نشعر بوجع الآخر، ألا نكتفي بالجلوس في منازلنا أمام التلفاز وننعي، بل أن نبادر بعمل محبة حتى لو كنا نحن من هم بحاجة أكثر من غيرنا.
هيثم الشاعر – أليتيا